تزوير هوية القدس على طريق مصير الأندلس
[ 05/12/2008 - 11:06 ص ]
نقولا ناصر
صحيفة الوطن القطرية
انشغلت وسائل الإعلام العالمية الرئيسية يوم الأربعاء الماضي بـ «المعركة الضارية» الانتخابية على رئاسة بلدية الاحتلال في القدس حول «الهوية اليهودية» لأولى القبلتين ومسرى النبي العربي محمد بن عبد الله وهل هي «هوية يهودية علمانية» أم هي «هوية يهودية متدينة» بين ثلاثة متنافسين، أحدهما مليونير وجنرال احتياط في جيش الاحتلال (نير باركات الذي فاز بالمنصب) وثانيهما حاخام متطرف ما زال يحلم بـ«أرض إسرائيل الكبرى» بين نهري النيل والفرات (مئير بوراش) وثالثهما رجل أعمال مهاجر من روسيا تجري محاكمته في فرنسا كمهرب للسلاح (اركادي غايداماك)، اختلفوا في ما بينهم حول أي هوية تهويدية يمنحونها للمدينة المقدسة واتفقوا على تهويد ما تبقى من عروبتها وإسلامها بتوسيع الاستعمار الاستيطاني في شرقها لكي يضمنوا أن تظل عاصمة أبدية موحدة لدولة المشروع الصهيوني وتحت سيادتها.
واكتفت القيادة الفلسطينية في رام الله - المؤتمنة على عروبة بيت المقدس وإسلامه بحكم الاعتراف العربي والإسلامي بها ممثلاً شرعياً وحيداً لعرب فلسطين ومسلميها - بتوجيه ندائها التقليدي المتكرر للمقدسيين بمقاطعة تلك الانتخابات لأن المشاركة في هذه الانتخابات ستعطي دولة الاحتلال ذريعة لضم شرقي المدينة، لانشغال هذه القيادة في «معركة ضارية» خاصة بها حول «الشرعية الفلسطينية» ما زالت بدورها تشغل وسائل الإعلام العالمية الرئيسية التي يحلو لها أن تصورها بأنها معركة تدور أيضاً حول هوية «الشريك الفلسطيني في عملية السلام» وهل هي «علمانية ديمقراطية»، وفي هذه الحالة فإنها مقبولة، أم هي «متدينة إسلامية» وفي هذه الحالة فإنها مرفوضة وينبغي حصارها، بينما يجري على قدم وساق تهويد العاصمة الروحية والسياسية والاقتصادية والتاريخية لعرب فلسطين ومسلميها، المتدينون منهم والعلمانيون جميعاً، وتزوير هويتها، في حين ينشغل فيلق جديد من الموظفين العرب في الاستعدادات لتنفيذ القرار الذي اتخذته الدورة الخامسة عشرة لمجلس وزراء الثقافة العرب التي عقدت في سلطنة عُمان يومي 8 و9 نوفمبر عام 2006 باعتماد القدس عاصمة للثقافة العربية للعام 2009، على أن تتقاسم فلسطين والعواصم العربية تنفيذ الفعاليات الثقافية.
وينضم فيلق الموظفين الجديد إلى جيش عرمرم من موظفي سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية (في محافظة القدس ومستشارية رئيس الوزراء لشؤون القدس ووحدة القدس في رئاسة السلطة واللجنة الشعبية المعتمدة من الرئاسة للدفاع عن القدس) ومن نظرائهم في عشرات اللجان الملكية والجمهورية، الرسمية والشعبية، العربية والإسلامية في عواصم الوطن العربي وحواضر العالم الإسلامي المنشغلين جميعاً برصد المناسبات المقدسية أو وقوع أحداث جسام في بيت المقدس لكي يدبجوا البيانات الفصيحة أو غير الفصيحة التي بالكاد تنشرها وسائل إعلامهم في عناوينها الرئيسية بينما تطرق وصولها إلى وسائل الإعلام العالمية مسدودة لأنها تحولت إلى ممارسة لفظية مكررة خالية من أي مضمون سوى اجترار نداءات ومناشدات لم يعد أحد يوليها أي اهتمام لإنقاذ بيت المقدس من خطر التهويد الذي يتهدده لأن الدفاع عن القدس قد تحول إلى وظيفة مأجورة تستظل بما يحلو للمفاوض الفلسطيني تسميته بـ«الاشتباك التفاوضي» الذي تقزم مؤخراً حد أن يجد رئيس الوفد المفاوض على قضايا الوضع النهائي أحمد قريع (الذي انتبهت وسائل الإعلام إلى غيابه عن الحراك السياسي الأخير للرئاسة) انجازاً تفاوضياً في عجز وزيرة خارجية دولة الاحتلال تسيبي ليفني عن تأليف حكومة وقرارها نتيجة لذلك بالذهاب إلى الانتخابات لأنها أصرت على إبقاء قضية القدس على طاولة المفاوضات في مواجهة معارضة قوية من خصومها السياسيين لأن التفاوض على القدس ينطوي على احتمال تقاسمها مع أهلها الشرعيين!
إن انتخاب «جنرالين» في الأسبوع الماضي لأكبر تجمعين استيطانيين حضريين في دولة المشروع الصهيوني، وهما الجنرال احتياط في لواء المظليين باركات في القدس والجنرال والطيار الحربي السابق رون هولداي في تل الربيع التي أسموها تل أبيب، يشير فقط إلى أن دولة الاحتلال تعتبر عملية البناء في وقت السلم ما هي إلا جزء من «المعركة الضارية» المستمرة في الصراع على الوجود الدائر في بيت المقدس وأكنافه، وهذه استراتيجية تتناقض بالتأكيد مع الانشغال الفلسطيني والعربي بـ «معركة» الاستعداد لـ«حفل افتتاح إعلان انطلاقة الفعاليات لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009 من مدينة القدس في أواخر شهر يناير المقبل بمشاركة فعاليات فنية عربية وفلسطينية» من المؤكد أنها سوف تستجدي «تصاريح دخول» ورخص موافقة على الفعاليات من الجنرال باركات وحكومته.
كما أن الجنرال باركات، المعارض لتقديم أي «تنازلات» للفلسطينيين في القدس والذي استقال من حزب «كاديما» لهذا السبب بالذات، لخص في تصريحاته بعد فوزه برئاسة بلدية الاحتلال وقبلها برنامجه بالعمل على ضمان بقاء القدس عاصمة أبدية موحدة لدولة الاحتلال وتحت سيادتها عبر تحقيق هدفين رئيسيين أولهما تكثيف الاستيطان الاستعماري في شرقي القدس وتسريعه، وخصوصاً بناء تجمع استيطاني يهودي ضخم في عناتا والمنطقة التي أصبحت معروفة باسم «إي - 1» حيث أقام الاحتلال مقر قيادة شرطته في الضفة الغربية لإغلاق الثغرة الوحيدة التي ما زالت مفتوحة فلسطينياً في الطوق الاستيطاني الذي بناه الاحتلال حول القدس الشرقية العربية ولوصل هذا الطوق بالطوق الاستيطاني الخارجي الذي بناه حول «القدس الكبرى» عبر تجمع استيطاني حضري جديد يتصل مع مستعمرة معاليه أدوميم شرقي القدس، وهي الأكبر في الضفة الغربية، التي تقرر تحويلها إلى أكبر مدينة بين القدس وبين نهر الأردن بضم مستعمرتي كيدار 1 وكيدار 2 اليها.
أما الهدف الثاني المعلن للجنرال باركات فهو تحويل القدس إلى مدينة دولية تجتذب عشرة ملايين سائح خلال السنوات العشر المقبلة وحاضرة عالمية على نمط مدينة قال إنها مثاله الأعلى وهي نيويورك عاصمة المال والمضاربات والمؤامرات السياسية التي فجرت رذائلها الاقتصادية وفضائح كبار مسؤولي مؤسساتها المالية الدولية الأزمة المالية الأميركية التي تعولمت وما زالت تتفاقم، بالرغم من الاستعدادات الجارية لافتتاح أكبر كنيس يهودي في العالم في القدس خلال شهرين قال خبير المخطوطات في بيت الشرق خليل التفكجي إن «قبته توازي حجم قبة الصخرة المشرفة مما يهدد المسجد الأقصى بشكل غير مسبوق» في سياق مخطط لتهويد المدينة المقدسة بحلول العام 2020 ليلحق مصير القدس «بمصير الأندلس» إذا استمر الوضع الفلسطيني والعربي على حاله الراهن يبحث عن السلام لا عن العدل، ليتحول بيت المقدس في الذاكرة الجمعية للأمة إلى مرثيات مقدسية مثلما تحولت الأندلس إلى موشحات أندلسية تبكي الناس على أنغام مجد غابر ضيعه اقتتال على الإمارة بالكاد يختلف عن الاصطراع الفلسطيني الراهن على السلطة.
وفي خضم المعركة الضارية الحقيقية التي يخوضها الاحتلال للفوز بتهويد القدس مقابل معركة طواحين الهواء الدونكيشوتية التي تخوضها القيادات التفاوضية الفلسطينية والعربية لم يعد يوجد أي شك لمن ستكون الغلبة ومن هو الذي سيقرر هوية بيت المقدس.